أعطونا الطفولة | معرض رقميّ

لوحة للفنّانة جنان عبده

 

تجمّدتُ كغيري أمام شاشات التلفاز أعيش الحرب، وأتنقّل من مشهد إلى آخر، ومن محطّة إلى أخرى. تعجز الكلمات عن وصف الواقع وكمّ الدمار. يتعاظم شعور العجز كلّما امتدّتِ الحرب والتقييدات والتضييقات على الكلام. أتوقّف عن الكتابة، تحتاج الكتابة إلى تنظيم الفكر، وانتقاء الكلمات الّتي أُضيف إليها موانع وقيود.

شعرتُ بحاجتي إلى الرسم؛ تعبيرًا عمّا أشعر به، وتجسيدًا لما أراه، ووفاء للأطفال. نعم، وفاء للأطفال؛ إذ وعدتُهم أن أرسمهم كلّما استطعت، نعم، وعدتُ أطفالًا لم ألتقِهم، ولا أعرفهم، لكنّي أشعر بهم بكلّ جوارحي؛ بأن أرسمهم.

قرّرتُ أن أرسم أطفال الحرب؛ أن أرسم تعابير وجوههم في لحظات الحرب القاسية، كما هم وكما هي. بدايةً، قرّرتُ أن أسمّي مجموعتي «بورتريهات أطفال الحرب»، وأن أرسمها كلّما استطعت، فالكلام فقد معانيه، الّتي اخترقها هي أيضًا القصف، وشوّهها، وجوّفها.

الحرب قبيحة مشوّهة؛ فلا تتوقّعوا من لوحاتي أن تكون جميلة. الحرب تخطف الأطفال، تشوّه أجسادهم، وتقتل أحلامهم، وتأخذ منهم قططهم وكلابهم وعائلاتهم. تأخذ أجمل ما فيهم، أحلامهم، ضحكاتهم. تأخذ طفولتهم، وتبقيهم أيتامًا فوق حطام بيوتهم، وركام الجثث المنتشرة حولهم.

بورتريهاتي مشوّهة كما الواقع، إلى أن يتغيّر هذا الواقع.

الحرب قذرة وحشيّة، اللوحات تعكس كلّ هذا القبح.

 

 ***

 

كلّما أضفتُ لوحة تملّكني شعور فقدان الطفولة؛ فقرّرتُ أن أضيف إلى مجموعتي اسم «أعطونا الطفولة». وكانت في بالي دندنة لحن أغنية «أعطونا الطفولة» وكلماتها، بصوت الطفلة الّتي لم تكبر في مخيّلتنا وبقيتْ طفلة - ريمي بندلي - الّتي تقول: "يا عالم، أرضي محروقة".

أحبّتي الأطفال، سامحوني؛ لا أقدر على أن أنقذكم من الحرب. لكن أعدكم أن أرسمكم.

ثلاثون لوحة هو عدد اللوحات الّتي رسمتُها. لكلّ طفل منكم قصّة، لكلٍّ منكم حياة، بعضكم فقدها كلّيًّا، مثل يوسف الجميل ذي الشعر ’الكيرلي‘، وآدم حفيد وائل. الباقون فقدوا كلّ مقوّماتها.

رسمتُ روزي؛ طفلة قتلت الغارة عائلتها، وشوّهت وجهها، لكنّها تبتسم خجلًا. هي لم ترَ حتّى الآن آثار الحرب في وجهها ورقبتها. جميلة روزي رغم قبح الحرب، جميلة بشعرها المنفوش فوق رسمها، وعينيها الدامعتين. جميلة روزي لكنّ الحرب قبيحة.

 

***

 

بكت سيّدة تلبس فستانًا أزرق، خارجة ممّا تبقّى من مبنى بجانب كنيسة القدّيس برفيريوس الّتي احتمى فيها النازحون. بكت بصوت مخنوق، ولطمتْ كفًّا بكفّ، وقالت: "حبايب قلبي أولاد ابني التلاتة كلّهم راحوا... راحوا". مشت خطوتين إلى الأمام، وكادت تسقط أرضًا. سندتْها امرأة أخرى، وهرع إليها مَنْ حولها يساعدونها على الوقوف؛ إذ لا كلام يُقال، لا كلام. حفظتُ صورتها، وعدتُها أن أرسمها، لكنّي لمّا أفعل حتّى اليوم. لم أقدر على ذلك. ازدادت صور الأطفال الضحايا الّذين خطفتهم الحرب، وآخرون خطفتْ قطعًا من أجسادهم، وأولئك الّذين خطفتِ الحرب كلّ عائلاتهم وأصدقائهم.

تراكمت الصور كلّما تراكمت الجثث، ومشاهد الفاجعة والمجازر. امتلأ هاتفي بالصور الّتي وعدتُ أصحابها أن أرسمهم.

رسمتُ يوسف الجميل بشعره ’الكيرلي‘ وضحكته البريئة، الّذي بحثت عنه والدته في كلّ مكان، إلى أن التقت جثّته الجميلة في المشفى قبل أن يُقْصَف المشفى ويختفي هو أيضًا عن الوجود. يوسف يبتسم في صورة حملتها والدته، هي ما تبقّى لها منه. يوسف لا يعرف أنّه لم يَعُدْ بين الأحياء. كتبتُ: أنا يوسف، يا أبي.

رسمتُ طفلًا آخر يبكي على حطام بيته، لا أعرف اسمه. جلس يبكي، ثمّ عاد يحفر بكفَّي يديه الصغيرتين. يسأله أحدهم عمّا يفعل، يجيب دون أن يرفع رأسه بأنّه يبحث عن عائلته. صمت الجميع؛ فماذا يمكن أن يُقال له؟

رسمتُ تلك المرأة ذات غطاء الرأس البرتقاليّ والثوب الكحليّ، تداولت صورتها فضائيّات دون أن يفطن أحد أن يكتب اسمها، حضنت بين يديها شاشة بيضاء تغطّي جسد ابنها أو ابنتها. بكت بصمت في الممرّ بجانب سرير كان يرقد عليه مَنْ فقدته. بكت لأنّها تعرف أنّه رحل ولن تراه بعد اليوم. بكت وحضنته بكلّ حبّ الأمّ. رسمتها بكلّ مشاعر الأمومة الّتي أملكها.

رسمتُ صرخة ذلك الأب الّذي يحمل ابنته الّتي قتلتها الغارة بين يديه، يكاد دويّ صراخه يصمّ أذنيّ. رسمتُه هو وطفلته الصغيرة. أسميتُ اللوحة «الأميرة النائمة». نعم، لا تستغربوا؛ رسمتُ صرخته الّتي عبّرت عن كلّ شيء.

رسمتُ ذلك الطفل الّذي فقد كلّ شيء؛ بيته وعائلته والأصدقاء، وحدها قطّته نجت من الحرب. يقولون إنّ القطط بسبع أرواح. في رأيكم، كم روحًا بقيت لهذه القطّة؟ كم من الحروب شاهدت حتّى الآن؟ كلّ حرب بروح. تمنّيتُ: ليت للأطفال أرواحًا كما القطط.

رسمتُ لوحة أخرى تحمل مقتل قطّة وحزن طفل عليها كانت صديقته. هذه القطّة لم تنجُ من الحرب، خسرت في هذه الحرب روحها الأخيرة.

 

***

 

قالت طفلة لأمّها: "تبكيش يمّا، تخافيش. منيحة أنا منيحة"، بينما كان المسعف يضمّد جراح الطفلة الّتي قصفتها الغارة، أزهرت وردة سقتها دموع الأمّ. تخيّلتُ الوردة الّتي أزهرت ورسمتُها.

الصحافيّ معتزّ عزايزة يحمل طفلين أصابتهما الحرب، ويحاول تهدئة رعبهما. شعرتُ بأنّ ما يشغل باله هو السؤال: هل ينجح في أن يصل المشفى قبل أن يُقْصَف؟ هل يصل؟

آدم صار جثّة بين يدَي جدّه وائل الدحدوح. يكتم وائل حزنه وألمه، ويقول لنا جميعًا: "معلش". مصطلح عبّر عن معنى الحرب لنا جميعًا. كلمة واحدة اجتمعت فيها كلّ المعاني: "معلش".

لوحة لطفل مرعوب يبكي مُدمى القدمين على أرضيّة المشفى المقصوف.

لوحة طفلة حضنت لعبتها، ونظرت إلى السماء بنظرة تقول كلّ شيء. لم أنجح أن أعرف اسم الطفلة، لكن نظرتها كانت تقول كلّ شيء.

 

***

 

كان الطبيب يضمّد جراحه، ويهدّئ من روعه، ونجح في أن يفهم السؤال الّذي كان الطفل يكرّره وهو يبكي ويرتجف: "بَضَّل عايِش؟".

لوحة كمال وهو يبكي ويقول لمسعفيه: "بدّي أبوسه... خلّيني أبوسه...".

ويشرح للمسعفين ما رآه بعينه: "كان يزعق: كمال يا كمال..."، ويضيف: "بعدين عشان التراب كان بتمّه مقدرش يزعق صار يقول آه آه".

هذا ما قاله كمال وهو يبكي، ويطلب من الطاقم الطبّيّ أن يسمح له بقبلة الوداع لأخيه الصغير فراس.

"وعدتُ نفسي، يا كمال، أن أرسمك... لحدّ اليوم مقدرتش... كلّ يوم بشوف صورتك وبسمع صوتك وكلماتك وبقدرش... اليوم وفّيت بوعدي الصغير. رسمتُك ونقلتُ كلماتك المليانة طفولة يخنقها التراب".

- "بدّي أبوسه... خلّيني أبوسه...".

 

***

 

رسمتُ طفلة تتّكئ على حائط بنظرتها الحزينة، ويهبط من حولها مطر غزير، ولا بيت يأويها ولا خيمة. لا تحزني، يا صغيرتي، سيتوقّف المطر، لا بدّ من أن يتوقّف.

هدنة، تكدّست أنابيب الغاز بصفّ طويل، وصار للأطفال مهمّة جديدة في هذه الحرب؛ عدّ الأنابيب، وضمان توزيعها على العائلات.

رسمتُ لعبة فقدت صاحبتها، وكُسِرَت رقبتها بين أكوام الركام.

رسمتُ طفلة تحمي أخاها تحت الأنقاض.

لوحاتي أقرب إلى الخربشة في واقع مُخَرْبَش. تتكلّم حين خرسنا. ستنتهي الحرب، لا بدّ لها من أن تنتهي، يحقّ للأطفال حياة أجمل من لوحاتي، وأجمل من واقعهم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

جنان عبده

 

 

 

محامية وفنّانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب «الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48» عن «مدى الكرمل». تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.